سورة ص - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ}.
ص هو حرف من حروف المعجم، بدئت به السورة، كما بدئت كل من سورتى ق و ن بحرف واحد، على خلاف السور التي بدئت بحروف، حيث بدىء بعضها بحرفين، مثل طه ويس وبدىء بعضها بثلاثة أحرف، مثل {الم} و{الر}، وبعضها بأربعة مثل {المر} وبعضها بخمسة مثل: {كهيعص} و{حم عسق}.
والملاحظ أن هذه السور الثلاث التي بدئت بحرف واحد، قد جعل الحرف اسما لها، وإن كان غلب على سورة ق اسم القلم، وكذلك الشأن فيما بدىء بحرفين، وهما طه ويس.
أما السور الأخرى التي بدئت بأكثر من حرفين فلم تكن الحروف التي بدئت بها، علما عليها.. ولعل في هذا ما يشير إلى أن هذه الحروف ليست حروفا بالمعنى المفهوم لها في النحو، وإنما هى أسماء، ذات دلالات، وأن الحرف هنا قد صار اسما على السورة، وعلما عليها.
وعلى هذا يصح أن يكون ص- واللّه أعلم- اسما مقسما به، ويكون {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} معطوفا عليه، فيكون المقسم به هو (ص)، والقرآن معا.
وإذ كان قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} معطوفا على مقسم به وهو ص- كان ص ذا شأن جليل، وجلال عظيم، كشأن القرآن وجلال القرآن.
والقرآن الكريم، هو كلام اللّه، وكلام اللّه صفة من صفات اللّه، وصفات اللّه هى ذات اللّه.
وإذن فيكون القول بأن ص هو اسم من أسماء اللّه، أو صفة من صفاته، قولا له مفهوم على هذا الاعتبار.
ويصح أن يكون ص- واللّه أعلم- إشارة مجملة إلى ما استقبل به النبىّ والمؤمنون قوله تعالى في آخر الصافات: {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}.
أي سبّحنا بحمدك ربّنا وحقّ ص والقرآن ذى الذكر، الذي آمنا به.
وعلى القول الأول يكون جواب القسم محذوفا، ويكون المعنى: وحقّ اللّه، وحقّ القرآن ذى الذكر، لقد تنزهت ربّنا عن الشريك والولد، فلك الحمد، ولرسلك السلام.. ولكن الذين كفروا {فى عزة} أي غرور بأنفسهم، {وشقاق} أي منازعة في هذا الأمر الذي سلّم لك به الوجود كله.
وعلى القول الثاني، يكون جواب القسم، هو ما ختمت به سورة الصافات، وهو قوله تعالى {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}، وقد تقدم الجواب على القسم.
وقوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ}.
وصف المشركين بالعزة، هو في مقابل قوله تعالى في آخر الصافات {سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}.
فهذه العزة التي للمشركين هى عزة باطلة مدّعاة، هى عزة غرور، وحمق وجهل، تلك العزة التي يخيل لمدعيها أنه واحد هذه الدنيا، ومالك أمرها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في شأن مدعى هذه العزة الكاذبة: {وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} [206: البقرة].
فعزة الكافرين هى من هذه العزة، التي تملأ كيان صاحبها غرورا وتعاليا.
وفى حرف الجر {فى} الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أن هذه العزة الكاذبة، مستولية على أهلها، مغطية على أبصارهم، فلا يرون على صفحة مرآتها إلا أنفسهم، في هذا الثوب الزائف الذي لبسوه.
والشقاق الذي، فيه هؤلاء الكافرون، هو منازعتهم للّه في عزته، واستكبارهم عن أن يستجيبوا للّه، ويؤمنوا به قوله تعالى: {كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ}.
{كم} هنا خبرية، تفيد التكثير.. أي ما أكثر ما أهلكنا قبل هؤلاء الكافرين الذي لبسوا هذه العزة الزائفة- ما أكثر ما أهلكنا قبلهم من أمم ظالمة، كانت أكثر منهم قوة، وأعز سلطانا، فلما جاءهم بأسنا نادوا مستغيثين، فلم يغاثوا، إذ كان قد فات أوان الغوث: {وَلاتَ حِينَ مَناصٍ}.
و{لات} أداة تفيد النفي، بمعنى لا والتاء زائدة، لتأكيد النفي وتقويته.
والمناص المفرّ، والملجأ.. ومنه الناصية، وهى الرأس من كل شىء.
وناصية الجبل أعلاه الذي يعتصم به.
قوله تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ}.
أي أن هؤلاء المشركين، قد عجبوا أن جاءهم رسول بشر منهم، وقال الكافرون عن هذا الرسول، {هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ} فرموه بالسحر، واتهموه بالكذب! وفى قوله تعالى: {وَعَجِبُوا} إسناد للعجب إليهم جميعا.. فهذا العجب هو الذي استقبل به المشركون بعثة الرسول فيهم.. ثم كانوا فريقين: فريقا لم يتلبث كثيرا في عجبه من هذا الرسول البشر.. فما هى إلا وقفة- طالت أو قصرت- ثم رجع إلى عقله، وثاب إلى رشده فآمن باللّه.. وفريقا ظل على عجبه هذا، فتولد منه الإنكار والكفر، وعلى حين قال المؤمنون: آمنا باللّه، ورسول اللّه، قال الكافرون: هذا ساحر كذاب.
قوله تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ}.
هو من مقولة المشركين، الذين قالوا هذا القول المنكر في النبي: {ساحِرٌ كَذَّابٌ}.
وهم بقولهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً} هو تعجب من دعوة الرسول لهم إلى توحيد اللّه، ونبذ ما يعبدون من دونه من آلهة.. إنها دعوة غير معقولة وغير مقبولة عندهم.
إذ كيف تكون الآلهة إلها واحدا؟ وكيف ينزل كل إله منها عن سلطانه إن شيخ القبيلة، أو زعيم الجماعة، لا يقبل أن ينزل عن مكانه من الرياسة لزعيم آخر، ولو كان هذا معقولا ومقبولا، لكانت قريش مثلا تحت زعيم واحد.
فإذا كان هذا غير ممكن في مجتمع القبائل، فكيف يمكن هذا في مجتمع الآلهة؟
{إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ}.
أي مثير للعجب، الذي ليس وراءه عجب! قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ} أي أنه لم يطل العجب منهم، بل أعطوا ظهورهم لما سمعوا من كلام اللّه، وتنادوا: أن اصبروا على آلهتكم، وتمسكوا بها.. أما هذا الذي سمعتموه من محمد، فإنما هو كيد من كيده، يريد به حاجة في نفسه!! قوله تعالى: {ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ.. إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ}.
أي إن هذا القول لم نسمع به في الديانة الآخرة. وهى المسيحية، التي هى آخر الديانات السماوية.. فهاهم أولاء يرون أتباع المسيحية- وهم أهل الكتاب- يجعلون للّه ابنا، هو المسيح، ويجعلونه إلها، كما يجعلون أمه إلها.. فكيف إذن يكون الإله إلها واحدا؟ وأين تذهب ألوهية المسيح، وأمّ المسيح؟ {إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ} أي كذب وافتراء على اللّه.. إذ لو كان اللّه يأبى أن يكون معه آلهة لما قبل أن يكون المسيح، وأم المسيح إلهين معه!! قوله تعالى: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا؟ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي.. بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ}.
وإذا اطمأنوا إلى هذا المنطق السقيم، الذي أقاموا منه الحجة الباطلة على كذب النبي ودعوته أن يكون الآلهة إلها واحدا- راحوا ينظرون في النبي ذاته مع صرف النظر عن محتوى رسالته، بعد أن أظهروا بطلانها- بزعمهم- فرأوا أنه على فرض التسليم بصدق ما جاء به- أنه ليس أهلا لأن يتلقى من اللّه هذا الذكر، وفيهم من هو أكثر مالا وولدا.. فكيف تتخيره السماء دونهم؟ وأين عين السماء عن هؤلاء السادة منهم؟ وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسانهم: {لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [31: الزخرف].
وفى تقديم متعلق الفعل {عليه} على فاعله {الذكر} إشارة إلى أن الإنكار للقرآن هنا، ليس منظورا إليه منهم، بقدر إنكارهم لاختيار الرسول لهذا الأمر، وترك ساداتهم ورجالاتهم.. ولهذا جاء قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} إضرابا على إنكارهم لشخص الرسول فيهم.. فإن الأمر ليس أمر الرسول، وإنما هو أمر ما أرسل به، والذي كان أولى بالنظر فيه، وإلى مواقع الصدق منه، وإلى محامله من الهدى والخير.. إنّ ذلك هو الذي كان ينبغى النظر إليه والوقوف عنده، والتعرف عليه، ثم قبوله أو التوقف فيه.
ثم إذ كان لهم نظر في حامل الرسالة بعد هذا، فليكن نظرا قائما من وراء النظر فيما يحمل إليهم.. ولكنهم قلبوا الأوضاع، فنظروا إلى الرسول بمعزل عن هذا الذي يحمله إليهم، فلم يروا فيه إلا واحدا منهم.. ثم إنهم إذ نظروا إليه في هذا الوضع، لم ينظروا إلى القيم الإنسانية العالية التي يشتمل عليها كيانه، من مكارم الأخلاق، وصفاء الروح، وعظمة النفس، فكل هذا لا حساب له في موازينهم التي يزنون بها الرجال، تلك الموازين التي لا يقام وزن الرجال فيها إلا بكثرة المال والأولاد! ومحمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- إذا وزن بهذا الميزان المادي، لا يكاد يقام له وزن، ولو أنه كان في ميزان الروح والنفس يرجح العالمين جميعا.!!
وإنهم ليسوا في شك من الرسول وحسب، بل إنهم في شك من الرسالة التي يحملها إليهم، وفى القرآن الكريم الذي يتلوه عليهم.. وإنهم كما نظروا إلى محمد ووزنوه بهذا الميزان الفاسد، نظروا إلى ذكر اللّه، ووزنوه بميزانهم المضطرب المختل، فقالوا عنه: هو شعر، وهو سحر، وهو أساطير الأولين.
إلى آخر تلك المقولات التي قالوها في كلام اللّه.
وفى قوله تعالى: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} وفى إضافة الذكر إلى اللّه- إشارة إلى أن حكمهم على القرآن، وتكذيبهم له، ليس حكما، على محمد، ولا تكذيبا له، بل هو حكم على اللّه وتكذيب للّه، فهذا القرآن قرآنه، وهذا الكلام كلامه.. وإذن. فإن حسابهم ليس بينهم وبين محمد، وإنما حسابهم بينهم وبين اللّه.
وفى قوله تعالى: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ} إضراب على الحديث إليهم بمنطق الحق، وإنهاء لهذا الموقف معهم، إذ لا تجدى معهم حجة.. وإذن فليذوقوا العذاب الذي يسوقه اللّه إليهم، بعد أن رفضوا هذه الرحمة المهداة لهم.
وفى قوله تعالى: {لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ} تهديد لهم بالعذاب الذي لم يذوفوا طعمه بعد، وأنه آت لا ريب فيه.
قوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}.
أي وإلى أن يقع العذاب المرسل إلى هؤلاء المشركين، فلينظروا في هذه القضية، وليجيبوا منها على هذا السؤال: أعندهم خزائن رحمة اللّه، حتى يتصرفوا في هذه الرحمة كما يشاءون، فيسوقوها إلى من شاءوا، ويصرفوها عمّن شاءوا؟ وإذا كانت رحمتنا قد شاءت لها إرادتنا أن تجىء إلى محمد وأن تجعله الرسول المصطفى لرسالة السماء من بينهم، فهل في مقدورهم أن يتحكموا في إرادتنا، وأن يصرفوا هذه الرحمة عنه، وأن يسوقوها إلى الرجل الذي يتخيرونه منهم؟ أليس ذلك مصادمة منهم لمشيئة اللّه، وتحديا لإرادته؟ {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ؟ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ} [32: الزخرف].. فهل هم يقسمون فيما بينهم رحمة اللّه فيما أفاء عليهم من نعم، فأغنى وأقنى، ومنح ومنع؟
وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى {بالعزّة}.
إشارة إلى أن مشيئته لا تغلب، وأن إرادته لا تنازع {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [54: الأعراف].
وفى وصفه سبحانه {بالوهاب}.
إشارة أخرى إلى أن هباته وعطاياه سبحانه- كثيرة لا تنفد، وأنه ليس لهم- وتلك هى هبات اللّه الشاملة، وعطاياه الغامرة- أن يحسدوا محمدا على ما أعطاه اللّه، فإن لهم من هذا العطاء شيئا كثيرا لو أرادوا أن ينالوا منه.. فهذا الخير الذي بين يديه، هو خير مسوق إليهم، وهذه الرحمة التي وضعها اللّه بين يديه، هى لهم، فليردوا مواردها، وليستقوا من ينابيعها، فإنها رحمة السماء إلى الناس جميعا.
قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما؟ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ}.
أي ألهؤلاء المشركين ملك ما في السموات والأرض، ليشاركوا اللّه في تصريفه، ويكون لهم ما شاءوا من منح ومنع، وإحسان وحرمان؟ إن لم يكن لهم ذلك، أو شيء منه، فليقفوا عند حدّهم، وليأخذوا بالأسباب التي في أيديهم.. تلك الأسباب، التي لو أحسنوا استخدامها لامتلأت أيديهم من فضل اللّه وإحسانه.. فما لهم إذن يتطلعون إلى السماء وأسبابها، ويعترضون على أحكامها ومقدّراتها، وبين أيديهم الأسباب القريبة التي ينالون بها الخير من قريب؟.. وما بالهم لا يتخذون طريقهم إلى كتاب اللّه، وينظرون بعقولهم في آياته وكلماته؟. إنهم لو فعلوا لأصابوا كلّ خير، ولظفروا بالسعادة في الدنيا والآخرة.. ولكنهم في ضلال يعمهون.. إنهم ينظرون إلى مقادير السماء، ولن يصلوا، وإنهم يعمون عما في أيديهم فلم ينالوا شيئا.. وذلك هو الخسران المبين.
ويجوز أن يكون هذا تعجيزا لهم، وتحديا لهذا المدّعى الذي يدّعونه فيما تنطق به حالهم من تكبر واستعلاء، واعتراض على ما للّه سبحانه وتعالى من تصريف في ملكه، فيعطى ويحرم، ويغنى ويفقر.. فإن كان لهم مع سلطان اللّه سلطان، فليمدّوا أسبابهم إلى السماء، وليرتقوا إلى السماء، وليقوموا على سلطانها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [42: الإسراء].
قوله تعالى: {جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ}.
أي هم جند.. مبتدأ وخبر.. وقد أضرب عن ذكرهم، إهانة لهم، واستخفافا بهم.. وأنهم مغلوبون مهزومون في الأرض بجند من جند اللّه، فكيف يكون لهم سلطان وغلب في السماء؟
و{ما} نكرة، تفيد العموم.. أي هم جند ما، من تلك الجند الكثيرة، ويجوز أن تكون للتنكير استخفافا بهم، وتهوينا لشأنهم أي هم جماعة من تلك الجماعات، التي تجتمع على الضلال، وتتحزّب على الباطل، في كل زمان ومكان.. ومن هؤلاء قوم نوح وعاد وفرعون، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.. فهؤلاء هم الأحزاب الذين أشارت إليه الآيتان (12، 13) من هذه السورة.
وهزيمة هؤلاء الجند، هى هزيمتهم في مواقع الحق، وخذلانهم في مجانى الخير.. فهم لا يعرفون حقا، ولا ينالون خيرا.
وفى وصفهم بالجند، إشارة إلى أنهم في حرب مع اللّه، ومع جند اللّه.
هذا هو ما تشير إليه الآية الكريمة من قريب، إلى موقف هؤلاء المشركين.
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أبعد من هذا، وهى هزيمتهم في موقعة الأحزاب، المعروفة بالخندق. فقد هزم المشركون، وما حزّبوا من أحزاب على النبي والمسلمين، وظاهرهم اليهود على هذا الذي أرادوه بالنبي والمؤمنين من سوء.. فهم وما جمعوا، جمع هزيل، لا قيمة له.


{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)}.
التفسير:
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ، وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ}.
فى هذا العرض للأقوام الذين كذّبوا رسل اللّه أمران.
الأول: مواساة للنبىّ الكريم؟ بهذا الذي لقيه رسل اللّه من قبله من تكذيب أقوامهم لهم.. فليس النبىّ- صلى اللّه عليه وسلم- بدعا فيما ناله من قومه، من أدى وضرّ.
والثاني: هو تهديد لهؤلاء المشركين أن يلقوا هذا المصير المشئوم الذي لقيه المكذّبون برسل اللّه.
فرعون ذو الأوتاد، هو فرعون مصر الذي وقف من موسى هذا الموقف الذي انتهى به وبجنده إلى الهلاك غرقا.
وأوتاد فرعون، هى تلك الأهرام التي أقامها فراعين مصر، فكانت أوتادا على الأرض كالجبال.. فالجبال هى أوتاد الأرض، كما يقول تعالى: {وَالْجِبالَ أَوْتاداً} [7: النبأ].
وأصحاب الأيكة: هم قوم شعيب عليه السلام.. والأيكة الشجر الكثير المجتمع بعضه إلى بعض أشبه بالغاية.
وفى عطف {عاد} على فاعل الفعل {كذبت} وهو {قوم} إشارة إلى أن المكذّبين هم {عاد} لا قوم عاد، إذ كانت نسبة الأقوام هنا إلى أنبيائهم.. وعاد ليس نبيا.. وكذلك الشأن في {ثمود} وأصحاب الأيكة.
أما عطف {فرعون} على عاد، فلأنه:
أولا: ليس نبيا، حتى يضاف القوم إليه في هذا المقام، ثم إن قوم فرعون، ليسوا من قوم النبىّ موسى، حتى يضافوا إليه.
وثانيا: لو أضيف القوم إلى فرعون، لأشعر هذا بأنه غير داخل معهم في التكذيب.. وهذا غير مراد.
وثالثا: تسليط فعل التكذيب على فرعون، يشعر بأنه كان هو الكيان المكذّب، الذي احتوى قومه جميعا في كيانه هذا.
وقوله تعالى: {أُولئِكَ الْأَحْزابُ}.
الإشارة إلى هؤلاء المكذبين الذين ذكرتهم الآيتان السابقتان.. وأنهم الأحزاب الذين جاء ذكرهم في قوله تعالى: {جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ} أي فهؤلاء المشركون من قريش، هم جماعة من تلك الجماعات، وهم من أحزابهم التي اجتمعت على الكفر والضلال، وعلى التكذيب برسل اللّه.. وهؤلاء جميعا- ومنهم هؤلاء المشركون- محكوم عليهم بالهزيمة والخذلان.. وهذا ما يشير إليه:
قوله تعالى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ}.
{إن} هنا نافية، بمعنى (ما). أي ما كلّ هؤلاء إلا كذّب الرسل، {فحق عقاب} فوجب عليه عقاب اللّه الراصد له.
وفى إسناد التكذيب بالرسل جميعا، إليهم في مقام واحد- إشارة إلى أمرين:
أولا: أن الرّسل جميعا على أمر واحد، وعلى دعوة واحدة، هى الإيمان باللّه.. فمن كذب برسول من رسل اللّه، فهو مكذب برسل اللّه كلهم.. لأن الحق الذي معهم واحد، والدين الذي يدعون إليه دين واحد.
وثانيا: أن أهل الضلال، كيان واحد أيضا، لا اختلاف بين أولهم وآخرهم.
فالطريق الذي سار عليه أولهم، من الكفر باللّه والتكذيب بالرسل، هو نفس الطريق الذي سلكه وسار عليه كل مشرك ضال.
قوله تعالى: {وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ}.
الفواق: البرهة القصيرة من الزمن، بين الجرعة والجرعة من الماء.. يأخذ فيها الشارب نفسه.
والإشارة هنا (بهؤلاء) إلى المشركين، وأنهم هم المقصودون في هذا المقام بهذا الحكم المشار إليهم به.
والآية تهديد لهم بأنهم- وقد أهلك اللّه أمثالهم من المكذبين الضالين، وأنزل بهم العذاب الذي يستحقونه- لن يمهلوا طويلا حتى يأتيهم العذاب، وهو حين يأتى لا يدع لهم لحظة من الزمن يستردون فيها أنفاسهم.. إنها صيحة واحدة تخمد أنفاسهم بعدها.
والصيحة هنا، هى صيحة الموت.. فإن مشركى العرب لم يهلكوا بعذاب من عند اللّه في الدنيا، إكراما لرسول للّه صلوات اللّه وسلامه عليه، كما يقول سبحانه: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [33: الأنفال] وصيحة الموت هذه، هى بالنسبة للكافر، الذي يموت على كفره، بلاء عظيم، إذ تقطعه عن الإيمان الذي كان يمكن أن يكون منه قبل أن يموت، فإذا مات على الكفر استحال أن يكون في المؤمنين أبدا.. وكانت الصيحة عليه بالموت، هى المركب الذي يحمله إلى جهنم في غير مهل!!.
قوله تعالى: {وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ}.
أي أن هؤلاء المشركين- وقد وعد اللّه نبيه فيهم، ألا يأخذهم بما أخذ به المكذبين قبلهم من عذاب الدنيا- لم يقبلوا هذا الإحسان من اللّه، بل ردوه في قحة وتحدّ {وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ} يقولون هكذا {ربّنا} ولا يستحيون أن يتحدوه هذا التحدي، ولا يخشوا عذابه!.
والقط: هو النصيب المقسوم من الشيء.. ولعلها كلمة جاءت إلى اللسان العربي من ألسنة الأمم المجاورة للعرب.. ولعل أصلها القط وهو جزء من أصل الشيء، ومنه القسطاس، وهو الميزان الذي توزن به الأشياء، ويحدّد به قدرها.
وفى قولهم: {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ} مع أنهم يكذبون به، استهزاء وسخرية، ومبالغة منهم في التكذيب بهذا اليوم.. يوم الحساب الذي يوعدهم الرسول به، وهو غير واقع في تصورهم.
قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
الأمر بالصبر: هو دعوة من اللّه سبحانه وتعالى إلى النبي الكريم، بالمصابرة، واحتمال المكروه من هؤلاء المكذبين، وما يقولون من منكر القول، كقولهم هذا: {عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ!} فإن لهؤلاء الظالمين يوما يجعل الولدان شيبا.
وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي واذكر في هذا المقام الذي تدعى فيه إلى الصبر- {اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ.. إِنَّهُ أَوَّابٌ} ففى ذكره في هذا المقام ما تجد فيه الروح الأنس، لما يتمثل لك من سيرته، التي يقصها اللّه عليك.
والأيد: القوة.. وهى مأخوذة من اليد، التي تتمثل فيها قوة الإنسان الجسدية.. ثم إنها ليست يدا واحدة، بل أيديا كثيرة.. وإذن فهى قوة خارقة.
والقوة هنا ليست قوة جسدية- وحسب- بل هى قوة روحية ونفسية أيضا، تشتمل على طاقات عظيمة، من الصبر على المكاره، واحتمال الشدائد.
والأوّاب: كثير الأوب، والأوب هو الرجوع إلى المكان الذي كان منه الذهاب.. فهو رجوع بعد ذهاب.. وقد غلب الأوب على المعنويات، كما غلب الإياب على الماديات.
والمراد بالرجوع هنا، الرجوع إلى اللّه، والاستقامة على طريقه، بعد ميل عنه.. فالأواب: هو الراجع إلى اللّه مرة بعد مرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} [25: الإسراء].
والسؤال هنا هو:
لما ذا كان داود عليه السلام هو المثل الذي يقيمه النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- بين عينيه، وهو بشدّ عزمه بالصبر على ما يقول قومه من زور وبهتان فيه؟ وهل في داود- عليه السلام- فصل خاص في هذا المقام، لم يبلغه الأنبياء؟ إن القرآن يحدثنا عن إسماعيل، وإدريس، وذى الكفل، على أنهم المثل البارز في الصبر الكامل.. فيصفهم سبحانه بالصبر، مجتمعين، فيقول سبحانه: {وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [85: الأنبياء] ويقول سبحانه عن أيوب: {إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ويقول سبحانه على لسان إسماعيل لأبيه: {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فما تأويل هذا؟.
والجواب- واللّه أعلم- هو من وجوه:
فأولا: ليس المراد بالأمر الموجه من اللّه سبحانه، للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- بذكر داود عليه السلام، في مقام إلفات النبي إلى الصبر، وإلى إقامة أمره عليه- ليس المراد به التأسى بهذا النبي الكريم، وإنما المراد به الحذر من أن تطرقه حال من أحوال الضعف البشرى، فيقع منه ما وقع من داود، فيما كان موضع ندم منه، واستغفار لربه، وتوبة إليه.
إن داود- عليه السلام- كان مع ما وصفه اللّه سبحانه به من قوة وأيد- غير قادر على مواجهة الفتنة التي ابتلى بها مواجهة كاملة، فكان منه هذا الذي وقع منه، والذي استغفر له ربه، فغفر له.. فالنبى عليه الصلاة والسلام، مطالب بأن يكون على عزم وقوة، أشد وأقوى مما كان عليه داود، من عزم وقوة، لأنه في وجه فتنة أعظم وأشد من فتنة داود.
فالأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- هم بشر قبل أن يكونوا أنبياء ورسلا.. والنبوة والرسالة، لم تنزع عنهم ثوب البشرية، وإن ألبستهم النبوة والرسالة حلل الصفاء، والنقاء، والطهر، ولكنها مع هذا، لم تسلبهم نوازع البشرية، وضروراتها.. وإلا لكانوا خلقا آخر غير خلق الناس، ولكانوا أبعد من أن يعيشوا في دنيا الناس، وأن يألفهم الناس ويألفوا الناس.
والأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم- على هذا الحساب، ليسوا على درجة واحدة. وإن كانوا جميعا على قمة البشرية كلها، فهم درجات ومنازل عند اللّه.. وفى هذا يقول اللّه تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ} [253: البقرة].. ولو أنهم كانوا على الكمال المطلق، لكانوا درجة واحدة.. ولكنهم- على حدود الكمال البشرى- في أعلى منازله.. وهم في هذه الحدود، درجات ومنازل.
وثانيا: ليس هذا التأويل الذي ذهبنا إليه في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} من أنه ليس مرادا به التأسى به، وإنما المراد هو تخطّى هذا الحد الذي وقف عنده داود عليه السلام وتجاوزه، في مقام الصبر، والعزم- نقول ليس هذا التأويل بالذي ينقص من قدر هذا النبي الكريم، وإنما هو وضع له في المقام الكريم الذي وضعه اللّه فيه، وإن كان فوق هذا المقام مقامات ومقامات!!.
وهذا كلام قد لا يهضمه كثير من أهل العلم، أو أدعياء العلم.. ويعدّونه تطاولا على مقام الأنبياء، وعدوانا على عصمتهم.. ومن يدرى فقد يذهب ببعضهم الشطط إلى أن يقولوا إن هذا كفر!! ونقول لهؤلاء مهلا.. فإننا على الإيمان باللّه وبرسل اللّه، وعلى التوقير لهم، والصلاة والسلام عليهم.
ومع هذا، فإننا سنقول هذا القول، لأنه مما تنطق به آيات اللّه، وتجرى عليه سنة الحياة البشرية، وترضاه العقول السليمة، وتطمئن إليه القلوب المؤمنة.
ثم نسأل: إذا كان ما قلناه في تأويل الآية الكريمة، مما يعدّ تطاولا على مقام هذا النبي الكريم.. فماذا عند من ينكر هذا التأويل- من تأويل لقوله تعالى للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [48- 50: القلم].
ماذا في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ}؟ أليس في هذا إلفات للنبى الكريم، ألا يكون على حال من الصبر كحال هذا النبي الكريم، {يونس} عليه السلام؟ أليس هذا صريح منطوق الآية الكريمة؟ وهل هذا مما يضير يونس عليه السلام؟ وهل ينقص ذلك من قدره في موازين الناس؟
وكلا، فإنه وهو على تلك الحال كان بمنزلته العالية، وبمقامه الكريم عند ربه، الذي يقول سبحانه عنه: {فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}.
وثالثا: لم يكن من محامل الآية الكريمة، وهى تحمل إلى النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- هذا التحذير الخفي من أن يكون على مستوى النبي الكريم داود في مقام الصبر- لم يكن من محاملها شيء يمس مقام هذا النبي الكريم، بل لقد حملت الآية الكريمة مع هذا ألطافا كثيرة من عند اللّه إلى عبده داود.
كلها تنويه به، ورفع لقدره، وإحسان بعد إحسان إليه، وكفى داود شرفا وفضلا أن يكون عبدا للّه، مضافا إلى ذاته جل وعلا.. ثم إن في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ} عدولا عن اللفظ الذي يدل على الاحتراس والحذر والتجنب، إلى اللفظ {اذكر} الذي لا يكون إلا في مقام الإحسان وتذكر النعم.. ثم جاء بعد هذا إضافة داود إلى اللّه سبحانه وتعالى، إضافة عبودية، الأمر الذي لا يناله إلا المخلصون الأصفياء من عباد اللّه.
ثم جاء بعد هذا وصفه بأنه {ذو الأيد} أي القوة والصبر على ما يبتلى به من ربه من منح أو منع.. ثم أنبع هذا الوصف بوصف آخر، وهو أنه {أواب} أي كثير الأوب والرجوع إلى اللّه، إذا هو شعر بأنه لم يؤد للّه ما يجب في مواقع الابتلاء، من شكر، أو صبر.
ثم يذكر بعد هذا ما ساق اللّه إليه من سوابغ رحمته المادية ولروحية معا، فيقول سبحانه: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ}.
فهذه وهى الجبال أبرز وجوه ما على الأرض من عوالم، تستجيب له، وتأنم به، وتسبّح للّه معه.. وهذه الطيور التي تبسط سلطانها في الجو، تحشر إليه- بقدرة اللّه- من كل صوب،. وكأنها بعض جنوده من البشر تسبّح اللّه معه، وتردد ما يسبح به.
ثم يقول سبحانه: {وَشَدَدْنا مُلْكَهُ} أي أعطيناه ملكا، وثبتنا له قواعده، {وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ} أي إلى جانب هذا الملك المتمكن، آتيناه نبوة، وعلما، تتكشف له بهما موارد الأمور ومصادرها، فيقيمها على ميزان العدل والإحسان.. ثم يقع لداود النبي- وهو قائم على سياسة هذا الملك الذي بين يديه- يقع له ابتلاء، فيهتز ميزان العدل في يده، ويجد لهذا نحسة في ضميره، فيرجع إلى اللّه تائبا مستغفرا، فيلقى من ربه قبولا ومغفرة، ويكسى حلل الرضا والإحسان، فيقول سبحانه: {فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} وهكذا يفعل اللّه لعباده المؤمنين.. يبتليهم، ثم يعافيهم، ليريهم مواقع رحمته بهم، وإحسانه إليهم، فيزدادون حمدا له، وقربا منه.


{وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)}.
التفسير:
داود.. وما خطيئته؟
قلنا إن اللّه سبحانه وتعالى، حين دعا النبي- صلى اللّه عليه وسلم- إلى الصبر، لفته- في رفق ولطف- إلى ألا يكون كداود عليه السلام فيما ابتلى به، فلم يكن على المستوي المطلوب منه في مواجهة هذا الابتلاء.. وقلنا إن ذلك لا ينقص من قدر هذا النبي الكريم، وإن كان يزيد في قدر النبي محمد- صلوات اللّه وسلامه عليه- ويشير إلى المقام الذي يجب أن يرتفع إليه، متجاوزا مقام داود عليه السلام- وإن كان مقاما رفيعا عظيما.
والذي نريد أن نقف عنده هنا، هو: ماذا كان من داود عليه السلام، فيما ابتلى به، مما لفت النبي- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى أن يذكره في مقام الصبر، وأن يكون له من ذكره عبرة وعظة..؟
فماذا كان من داود عليه السلام؟
تحدّث الآيات السابقة عن قصة حدثت لداود عليه السلام، وتذكر أن خصمين دخلا عليه مجلسه في صورة غير مألوفة، إذ تسورا عليه السور، ولم يدخلا من المدخل الطبيعي إليه.. ففزع منهما، وتوقع الشر من دخولهما على تلك الصورة، التي يقتحمان عليه فيها مجلسه اقتحاما، من غير استئذان، وهو الملك، ذو البأس والسلطان، الذي تقوم على حراسته الجنود، والحجّاب.
فبأىّ سلطان دخل عليه هذان الخصمان؟ وكيف نفذا إليه؟ وأين عيون الجند والحرس؟ إن في ملكه إذن لخللا، وإن في سلطانه لثغرة يمكن أن ينفذ منها الشر إليه!! ولكن سرعان ما يكشف الخصمان عن شخصيتهما، فيهدئان من روعه، ويقولان له: {لا تخف}!! ومم يخاف وهو السلطان ذو البأس والقوة؟
وهل هما إلا بعض رعاياه؟ وهل يخاف الراعي من رعيته؟ وهو حصن أمنها، وموطن سكنها؟ وإذا كان ثمة خوف فهو خوف الرعية من سلطانها، لا خوف السلطان من رعيته!! إن في الأمر إذن لشيئا. ويمضى الخصمان يعرضان أمرهما: {خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ}!! ويزداد داود عجبا إلى عجب، من هذا الأمر الصادر من المخصمين إليه: {فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ} هكذا بالأمر! وهل يحكم بغير الحق؟
وهل يتوقعان منه غير هذا؟ وإذا كانا يتوقعان غير ذلك، فهل لهما أن يصدرا إليه هذا الأمر؟ بل هل لهما أن يجهرا بما تحدثهما به نفسهما من جهته؟ إن في الأمر لأكثر من شى ء؟.. ثم لا يقف أمر الخصمين عند هذا الأمر الصريح لداود بأن يكون عادلا في حكمه بينهما، بل إنه ليحذّر منهما بألا يشتط في الجور، إن كان لا يملك أن يعدل أو لا يحسن أن يقيم ميزان العدل مستقيما.
{ولا تشطط}!! تلك هى مقدمات القضية.. أما القضية، فلم يرض الخصمان أن يعرضاها إلا بعد أن اشترطا لنفسهما على داود، أن يكون عادلا في الحكومة بينهما، وألا يجور في الحكم.. فإن قبل منهما هذا الشرط، عرضا عليه أمرهما، ورضياه حكما بينهما، وإلا كان لهما شأن آخر معه..! إن الأمر فيما يبدو هو محاكمة لداود، أكثر منه احتكاما إليه؟.
وأعجب ما في الموقف هنا، أن الخصمين يتفقان على هذا الأمر، ويقفان موقفا واحدا فيه، حتى لكأن كلا منهما قد وقع في نفسه، ما وقع في نفس صاحبه، من اتهام لداود في عدله!.. والقضية- كما سنرى- واضحة لا تحتاج إلى نظر دقيق في التعرف على وجه الحق فيها.. إذ كان الظلم فيها صارخا، يكاد يمسك بتلابيب أحدهما.. فكيف يساغ لهذا الظالم ذلك الظلم الصارخ، أن يطلب العدل، وأن يتشدد في طلبه؟ إن في القضية لأشياء وأشياء، تخرج بها عن مألوف ما يجرى بين الناس من قضايا، وما يقع من خصومات.
فما القضية؟.
إنها قضية موجزة، واضحة، قد جمعها القرآن الكريم في كلمات:
{إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}!!.
هذه هى القضية:
أخوان في النسب، أو في الإنسانية، لأحدهما تسع وتسعون نعجة، وللآخر نعجة واحدة.. وصاحب التسع والتسعين نعجة، لا يقنع بما في يده، بل يمدّ عينه إلى أخيه صاحب النعجة الواحدة، ثم لا يزال به حتى يسلبه نعجته، ويخلى يديه من كل شىء، حتى يصبح هو صاحب مائة.. فيكمل بتلك النعجة ما يراه نقصا في تمام العدد.. وإن تسعا وتسعين عدد ناقص، ومائة عدد كامل.. فلا بد إذن أن يكملّ هذا العدد، ولو كان بحرمان صاحب النعجة الواحدة، من نعجته..!
وماذا يفعل صاحب القليل بقليله هذا؟ إنه لا غناء له فيه، وإنه ليسدّ خللا فيما بين يدى صاحب الكثير، ويكمل نقصا واضحا فيه.. فماذا عليه لو ضاع منه هذا القليل، ليوضع في موضعه الذي ينتظره عند صاحب الكثير؟
هكذا قدّر صاحب الكثير، وهكذا أمضى حكمه في صاحبه!.
والظلم واضح صريح في هذه القضية.. ولهذا بادر داود ببيان وجه الحق فيها، على حسب ما سمع من المدعى: فقال- معلقا على دعواه:
{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ}! إن الأمر- فيما يبدو- ظلم صارخ، وعدوان مبين.!
ولم يلتفت داود إلى الظالم، ولم يواجهه بالحكم الذي يقتضيه الموقف، بل عاش لحظاته تلك، مع هذا المظلوم، يواسيه، ويخفف عنه مرارة الظلم الذي تجرعه من يد أخيه.. فيقول له: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ.. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ}.
فلست أنت يا صاحبى أول من ظلم من معاشريه ومخالطيه.. فما أكثر بغى الخلطاء بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء الخلطاء.. وقليل هم أولئك الذين لا يظلمون!.
وهنا يبحث داود عن هؤلاء القليل في الناس، ويتفرس في وجوههم، ثم يلتفت إلى نفسه، وهل هو واحد من هؤلاء القليل؟ وهنا يطلع عليه من صفحة أعماله ما يراه غير قائم على ميزان العدل.. وسرعان ما يرى نفسه طرفا في هذه القضية التي بين يديه، وأنه يأخذ موقف المدعى عليه فيها، وأن هذا المدعى إنما يقيم دعواه عليه هو، لا على هذا الشخص الذي جاء به إليه.. إن هذا الشخص ما هو إلا المرآة التي يرى فيها داود نفسه!.
ومن إعجاز القرآن في هذا، أنه لم يضع هذا المدعى عليه موضع اتهام، فلم يسأل في هذا الادعاء المدعى عليه به، ولم يوجّه إليه أي حديث، بل كان الحديث كله بين داود وبين صاحب الدعوى.. إذ يقول له معلقا على دعواه:
{لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ}.
وكان الموقف يقتضى أن يقول للمدعى عليه {لقد ظلمته بسؤال نعجته إلى نعاجك}!. فما جوابك على هذا؟.
لم يكن شيء من هذا.. بل لقد ذهب الخصمان، دون أن يفصل بينهما فيما اختصما فيه.. ويخليان مكانهما للخصمين اللذين هما أولى منهما بهذا الموقف:
داود وخصمه، الذي تمثّل له في خطيئته.
وهنا يدرك داود أن هذين الخصمين، إنما هما ابتلاء من اللّه سبحانه وتعالى له، ليكشفا له عن أمر كان منه، فيه مشابه كثيرة من هذه القضية التي بين يديه، فيذكر هذا الأمر، ويكون له من ذكره امتحان وابتلاء، حيث يلتمس السبل في تخليص نفسه مما وقع فيه، فلا يجد إلا التوبة إلى اللّه، والاستغفار لذنبه، وهو في ذلك المقام يتقلب على جمر من الحسرة والندم، قد كربه الكرب واستبد به الجزع على ما فرّط في جنب اللّه.. إنه أعرف بربه، وبجلاله وعظمته، وقدرته، وبالنعم السابغة التي أضفاها عليه، ثم هو أعرف بما للّه من غيرة على حرماته، كما هو أعرف بما للّه من حساب لأوليائه على صغائرهم، وهم في هذا المقام الكريم الذي أنزلهم فيه.
ومن هنا كان داود في فتنة قاسية، وابتلاء عظيم، بعد أن كشفت له تلك القضية عن حال من أحواله، لا يرضاه عنه ربه، فغامت نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.. وقد ظل هكذا في كرب وبلاء عظيمين، يستغفر ربه، ويذرف دموع الندم، إلى أن تلقى إشارة السماء بمغفرة اللّه سبحانه وتعالى له، ورضوانه عنه، وإحسانه إليه!!
إنها هفوة من هفوات النفس البشرية، وهى في حساب الناس لا تكاد تعدّ شيئا، بل حتى لا تحسب من اللمم المعفو عنه، ولكنها في مقام الأنبياء والرسل شيء عظيم، وذنب كبير..!
ونكاد نقف عند هذا الحد من هذه القضية، أو القصة. فهذا ما نأخذه من آيات اللّه، ودلالاتها القريبة، دون تعسف في التأويل، ودون استجلاب للمقولات الغريبة، التي تحمل عليها آيات اللّه حملا.
نقول، نكاد نقف عند هذا الحدّ من تلك القضية، وحسبنا أن نعرف مما تحدثنا به آيات اللّه، أنه كان من نبى من أنبياء اللّه الكرام هفوة، ثم كان له من اللّه سبحانه ألطاف، فتاب إلى اللّه واستغفر لذنبه، فغفر اللّه له، وزاد مقامه عنده رفعة- نقول- مرة ثالثة- كنا نريد أن نقف عند هذا الحد لا نتجاوزه، ولكنا نجد بين أيدينا، كتب التفاسير كلها، قد جاءت بمقولات من وراء دلالات الآيات القرآنية، وأكثرها مأخوذ عن روايات إسرائيلية يرويها اليهود عن كتابهم الذي حرّفوه، وألقوا فيه بأهوائهم الفاسدة، ومنازعهم الخبيثة.
ثم توسّع الرواة والنقلة في هذه المقولات، وتصرفوا فيها كيف شاءوا، ومن وراء ذلك اليهود، يدسّون على المسلمين أحاديث عن الرسول، يضعون لها سلسلة من الرواة الذين اشتهر عنهم الحديث عن رسول اللّه، فتقع هذه الأحاديث المكذوبة من قلوب المسلمين موقعا، لا يجدون معه سبيلا إلى دفعها، وإذا حصيلة هذه الأحاديث المكذوبة، مجموعة من المتناقضات، يدفع بعضها بعضا، ويكذّب بعضها بعضا، فلا يدرى المرء ماذا يأخذ منها وماذا يدع. وفى أكثر الأحوال ينتهى الأمر إلى الشك فيها جملة.. إذ كانت لا تتصل بالعقيدة أو الشريعة.
وهذه قضية قد عرضنا لها في أكثر من موضع، وربما عرضنا لها في دراسة خاصة- إذا شاء اللّه- بعد أن يعيننا اللّه سبحانه، على أداء هذه المهمة التي نقوم بها في خدمة كتابه الكريم،. فإن مثل هذه الأحاديث التي تنسب إلى الرسول الكريم، وإن لم تكن ذات أثر في العقيدة أو الشريعة، فإنها تسبب إزعاجا، وخلخلة في نفس المسلم إزاء الأحاديث النبوية الشريفة، وتقيمه منها على مقام بين الشك واليقين، في كل ما يعرض له من أحاديث تنسب إلى الرسول.. وتلك هى جناية الأحاديث المكذوبة والملفقة على السنّة، التي هى المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم.
ونعود فنقول:
إن الذي يدعونا إذن إلى الوقوف عند هذه القصة- قصة داود عليه السلام- هو تلك المقولات الكثيرة المتناقضة المتضاربة، التي قيلت عن الهفوة التي كانت من هذا النبي الكريم.. ولا نريد أن نعرض هذه المقولات، ونناقشها، ونعدّل أو نجرّح فيها، فهذا يحتاج إلى بحث طويل، يستنفد منا جهدا نحن حريصون على ألا يكون لغير كتاب اللّه.
وإذن فلن نقول هنا في هذه الهفوة، وفى الكشف عن وجهها إلا قولا واحدا، نختاره من بين هذه المقولات، لأنه أقرب شيء إلى مفهوم تلك الإشارة الخصية التي يراها الناظر بقلبه وبعقله في الآيات الكريمة التي نحدثت عن تلك القصة.
فالآيات القرآنية، تحدث عن أن داود عليه السلام، قد آتاه اللّه سبحانه ملكا، وقد مكّن له في هذا الملك- إلى جانب النبوة التي اختصه اللّه سبحانه بها، فجمع للّه سبحانه بهذا بين يديه السلطة الدينية والدنيوية معا.
هذه واحدة.
وأخرى، هى أن هذا النبي الكريم، وإن لم تكن له رسالة خاصة في قومه، فإن رسالته فيهم، كانت امتدادا لرسالة موسى. فهو- والأمر كذلك- لم يكن في رسالته إليهم إلا أن يقيمهم على الشريعة التي في أيديهم، وأن يحقق العدل الذي اختلت موازينه في أيديهم.
وهذه ثانية.
وثالثة، هى أن معركة هذا النبىّ وميدانها، هو في هذا الصراع الذي يقوم بين السلطتين اللتين في يديه.. سلطة الدين الذي يمثل سلطان اللّه الذي وضعه في يده بمنصب النبوة، وسلطة الدنيا التي تتمثل في هذا الملك الذي يقوم عليه.
ومن هنا كان على داود- عليه السلام- أن يمسك ميزان العدل في يديه، وأن يقيمه بالقسط، فلا يميل ولا ينحرف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} الآية.
ورابعة.. وهى أن إقامة هذا الميزان على حال سوى متوازن دائما، أمر لا تكاد تحتمله طاقة البشر، فقد يكون في طاقة الإنسان أن يعمل للملك وحده، فلا يعطى للدين ولا للآخرة شيئا.. وقد يكون في طاقته أن يعمل للدين وحده، فلا يعطى الدنيا من نفسه شيئا.. هذا وذاك أمران ممكنان.. وممكن كذلك، أن يجمع الإنسان بين السلطان في الدنيا، والعمل للآخرة.. وذلك بأن يعمل للآخرة، وأن يمسك بطرف من السلطان الدنيوي أو أن يعمل للدنيا، ويمسك بطرف من الآخرة.. أما أن يجمع بين الدين والدنيا هذا الجمع المتوازن، المستقيم على خط هندسى.. فهذا هو لذى لا يمكن أبدا.
وننظر إلى داود- عليه السلام- في موقفه هذا:
إنه سلطان، يملك دنيا عريضة.. ولهذه الدنيا إغراؤها، وشهواتها.
وإنه نبى كريم. وللنبوة خطرها، وجلالها، وسموّها.
والمطلوب منه هنا، هو أن يجمع بين السماء والأرض.. أن يلبس الملك والنبوة معا.. فلا يرى في حال من أحواله إلا ملكا نبيّا، أو نبيّا ملكا.
إنه ملك من عند اللّه، ونبىّ من عند اللّه، يسوس الملك بالنبوة، ويؤيد النبوة بالملك!.
ولا شك أن هذا فضل عظيم، ولكنه ابتلاء عظيم أيضا، ولهذا كان هذا الإلفات السماوىّ لداود، أن يأخذ حذره، إذ يقول له الحق جل وعلا: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ}.
ولهذا أيضا كان تقبل اللّه سبحانه لداود، وتجاوزه عن ذنبه، إذ كان إنما حمل أمرا عظيما، تغتفر له فيه الهنات، وتقال فيه العثرات! فما هى هفوة هذا النبىّ الكريم، وما هى عثرته؟
إنها- واللّه أعلم- ملففة في ستر من ألطاف اللّه ورحمته، فيما كان من تلك القضية التي عرضها عليه الخصمان: {خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} إن القضية تمثل صراعا بين قوىّ وضعيف.. بين من يملك الكثير الكثير، ومن لا يملك إلا القليل القليل.. بين صاحب سلطان يعتز بسلطانه، ويمضى الأمور بكلمة تصدر من فمه، وبين من لا يملك الكلمة بقولها أمام هذا السلطان!.
وداود- عليه السلام- يمثّل السلطان في أعزّ مكان، وأقوى سلطان.
وبكلمة منه إلى أحد رعاياه نزل له هذا الرعية عن شىء- هو أعز ما يملك- كانت نفس داود قد مالت إليه، ورغبت فيه.. ولم يستطع هذا الرعية أن يقول: لا.. توقيرا وهيبة، أو خوفا وإشفاقا.
وفى قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} إشارة إلى أن كلمة داود كانت حكما قاطعا، وقضاء نازلا، لم يستطع له هذا الرعية ردّا.
يقال: عز فلان، أي صار ذا عزة، وعز فلان فلانا، أي غلبه.
وفى المثل: من عزّ بزّ أي من قوى، غلب وسلب! وماذا أخذ داود من هذا الإنسان؟
إنه شيء ما، عزيز على هذا الإنسان، مستغن به.. قد يكون فرسا، يضمه داود إلى مقتنياته من جياد الخيل.. وقد يكون مزرعة بين مزارع داود.. وليس من الحتم أن يكون امرأة، كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسرين، مستندين في هذا إلى ما جاء في قضية الخصمين، وإلى أن النزاع كان بينهما على {نعجة}.
والنعجة تطلق في لسان العرب على المرأة!! ولو سلمنا بهذا، لكان لنا أن نقول، إن هذا مثل، تراد دلالته، ولا تراد صورته.
فلو ذهبنا نأخذ صورة المثل هنا، لكان من الحتم أن يكون لداود تسع وتسعون امرأة.. وهذه الكثرة في النساء، إن فرض التسليم بها، فلم يوقف بها عند هذا العدد بالذات؟. ولم لا تزيد أو تنقص؟
إن دلالة التسع والتسعين- كما قلنا- هى دلالة على أمرين:
أولا: كثرة الشيء ووفرته.
وثانيا: نقص هذه الكثرة، وحاجتها لشىء يبلغ به تمامها، حتى تكون مائة!.
هذه هى القصة أو القضية.. وقد أدين فيها داود، أدان نفسه وحكم عليها بهذا اللوم الصارخ، وهذا الاستغفار الدائب، والضراعة السابحة في دموع الندم.. ولعل هذا الصوت الشجى، المحمّل بزفرات الحسرة، ونشبج الحرقة، الذي كان يسبّح به داود، ويتلو به آيات الزبور، على أنغام مزاميره، فتهتز له الجبال، وتصغى إليه الطير- لعل هذا الصوت كان من مواليد هذه المحنة، التي ولدت لداود أكثر من مولود، ورفدته بأكثر من عطاء من عطايا اللّه ومننه.
أمّا ما تقول به التوراة، وما تلقاه عنهم المفسّرون، ودعموه بالأحاديث من أن داود قد وقع في حب امرأة قائد من قواد جبشه اسمه أوريا وأنه أراد أن يستخلص المرأة لنفسه، بعد أن رآها من قصره وهى تستحم في فى دارها القائمة تحت قصره، أو وهى تمشط شعرها- فكان من تدبيره لهذا أن بعث بهذا القائد في مهمة حربية، وجعله في مواجهة الموت الراصد له هناك.. فلما قتل في المعركة تزوج داود امرأته- فهذا قول فيه جرأة على مقام هذا النبي، الأمر الذي كان لا يتورع عنه اليهود مع أنبياء اللّه، أحياء وأمواتا، أو قتلى بأيديهم، فضلا عن أن هذا العمل المشين مدفوع بأكثر من دفع، على حسب ما جاء في القرآن الكريم، منطوقا ومفهوما، كما رأينا.

1 | 2 | 3